أصيبت الأمـة الإسلامـيـة في القرون المتأخرة في أعز ما تملك وهو عقيدتها الصافية النقـيـة التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عند الله عز وجل، وسار عليها صحابته رضوان الله عليهم، وتبعهم في ذلك ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، ولا تزال طائفة من الأمة سائرة عليها كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه المصيبة العظيمة لها جذور تاريخية ترجع إلى القرون الأولى. فقد بدأت هذه المصـيبـة بمقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- على يد مجوسي حاقد، ثم قتل ذي النورين عثمان بن عفان --رضي الله عنه-، بمؤامرة دنيئة، ثم ظهر القول بنفـي القدر، ثم أوقدت الفتنة بين المسلمين، ودار القتال بينهم، ثم خرجت الخـوارج بمقـولـة شنيعة، ثم ظهر التشيع، وازداد أهله غلواً وبعداً عن الدين، وانتشر الرفض في بقاع شتى من العالم الإسلامي.
وفي كل مرة كانت هذه الانحرافات تجد من يتصدى لها من الرجال الأفذاذ الذين جمعوا بـيـن الـعـلـم والـعـمـل، والجهـاد في سـبـيل الله، وكان هؤلاء يعملون على تنقية الأجواء
الإسلامية من كل انحراف ومن كل دخيل.
وفي الأسطر التالية أثر يتحدث عن نموذج لانحراف خطير ظهر في هذه الأمة، وكيف تصدى لهذا الانحراف رجل تخرج من مدرسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي تخرج منها أعظم الرجال.
وهذا الأثر فيه فوائد شتى، لم يكن المقصود استخراجها جميعاً، بل ترك ذلك للقارئ الكريم، وإنما حسن التنبيه على بعض فوائده على وجه الاختصار.
وطريقة عرض هذا الأثر هي: عرض جميع رواياته التي وقفت عليها ومن ثم إدراج الزيادات على السياق الأصلي، وقد أسوق نصًا غير النص الأصلي - في بعض المواطن - لأن في ألفاظه زيادة فائدة.
وسياق الرواية الأصلي هو لمتقدم المخرجين لهذا الأثر من أصحاب مصنفات الحديث.
وهذا نص الأثر:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دار - على حدتهم - وهم ستة آلاف وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- معه، قال: جعل يأتيه الرجـل فيقول: يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك، قال: دعهم حتى يخرجوا فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسوف يفـعلون. فلما كان ذات يوم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين: أبرد عن الصلاة فلا تفـتـني حتى آتي القوم فأكلمهم، قال: إني أتخوفهم عليك. قلت: كلا إن شاء الله تعالى وكنت حسن الخلق لا أوذي أحدًا. قال: فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، قال أبو زميل: كان ابن عباس جميلاً جهيرًا. قال: ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة. قال: فدخلت على قوم لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن (*) الإبل، وجوههم معلمة من آثار السجود، عليهم قمص مرحضة، وجوههم مسهمة من السهر. قال: فدخلت. فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس! ما جاء بك؟ وما هذه الحلة، قال: قلت ما تعيبون علي؟ لقد رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من هذه الحلل، ونزلت ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق)) قالوا: فما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن عند صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، وليس فيكم منهم أحد، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله تعالى يقول: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))، وقال رجلان أو ثلاثة لو كلمتهم.
قال: قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وختنِه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله معه؟
قالوا: ننقم عليه ثلاثاً.
قال: وما هنّ؟
قالوا: أولهن أنه حكّم الرجال في دين الله، وقد قال الله: ((إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ))، فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل.
قال: قلت وماذا؟
قالوا: وقاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، لئن كانوا كفارًا لقد حلت له أموالهم ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم.
قال: قلت وماذا؟
قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين. فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قال: قلت أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
قال: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما لا تنكرون [ ينقض قولكم ] أترجعون؟
قالوا: نعم.
قال: قلت أما قولكم: حكّم الرجال في دين الله، فإن الله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ))، إلى قوله: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ)). وقال في المرأة وزوجها: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا)). أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم، وفي بضع امرأة. وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال.
قالوا: اللهم في حقن دمائهم، وإصلاح ذات بينهم.
قال: أخرجت من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة، أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها، فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أم المؤمنين فقد كفرتم، وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ))، فأنتم مترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم، أخرجت من هذه؛ فنظر بعضهم إلى بعض.
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا قريشًا يوم الحديبية أن يكتب بينه وبينهم كتابًا فكاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان. فقال: اكتب يا علي هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله حقًا وإن كذبتموني، اكتب يا على: محمد بن عبد الله ، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أفضل من علي -رضي الله عنه- وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه. أخرجت من هذه؛ قالوا: اللهم نعم. فرجع منهم ألفان، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا على ضلالة.
هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في (المصنف ، باب ذكر رفع السلام 10/157 رقم 18678) ومن طريقه - بنفس اللفظ تقريبًا -أخرجه أبو نعيم في (الحلية 1/318)، وأخرجه البيهقي في(السنن الكبرى 8/179)، وابن عبد البر القرطبي في (جامع بيان العلم وفضله 2 / 103 طبعة المنيرية)، ويعقوب بن سفيان البسوي في (المعرفة والتاريخ 1/522)، والحاكم في (المستدرك 2/150-152)، وأخرج بعضه الإمام أحمد في(المسند 1/342،5/67 رقم 3187، طبعة شاكر) كلهم أخرجوه من طريق عكرمة بن عمار ثنا أبو زميل الحنفي ثنا ابن عباس به، ولكل منهم لفظ مختلف وزيادات أثبتنا منها ما كان فيه زيادة معنى.
وهذا الأثر نسبه الهيثمي في (مجمع الزوائد) إلى الطبراني وأحمد في المسند، وقال: رجالهما رجال الصحيح، وأشار إليه الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية 7 / 282)، وابن الأثير في (الكامل) وابن العماد الحنبلي في (الشذرات)، وذكر غيرهم سياقات أخر لهذه القصة ولكنها عن غير ابن عباس من غير هذا الطريق، وإنما مقصودنا رواية ابن عباس فقط..
وقال أحمد شاكر في تعليقه على (المسند 5 / 7 6 رقم 3187): إسناده صحيح. اهـ